• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

خوف الطفل.. له معنى

خوف الطفل.. له معنى

إنّ هذا الخوف يبلغ ذروته في أوقات التعلم السريع – تعلم الطفل أموراً حول نفسه وحول البيئة التي يعيش فيها، فمثل هذا التعلم السريع لابدّ له من ثمن. فالمتطلبات التي تفرض على الطفل من جراء إدراكه لنواحٍ جديدة من العالم الذي يعيش فيه، توجد نوعاً من الخلل في التوازن يجعل الطفل مؤقتاً مفرطاً في الحساسية تجاه الأشياء والأحداث التي تمر في حياته. وهذه الزيادة في الحساسية تجد تعبيراً لها في الخوف أو في طريقة التعبير عنه. فالخوف إذن يساعد في التعرف إلى القلق الطبيعي الذي يحدث عند الإنسان عند حدوث تبدل في أفكاره أو وعيه. فالطفل الذي يشعر بالخوف يمكن أن يعبر عنه يطلب المساعدة ممن حوله، المساعدة على اكتشاف حدود الموقف الجديد وكذلك حدود مقدرته الخاصة على معالجة ذلك الموقف.

فالمخاوف إذن هي صرخة طبيعية لطلب العون. فهي إذن حالة يقصد بها أن تخلق عند الوالدين تجاوباً مريحاً.

ولكي يتجاوب الوالدان مع هذه الصرخة ويساعدا ابنهما أو ابنتهما على استرجاع حالته المعتادة، فقد يكون لزاماً عليهما أن يواجها الخوف عند الطفل مواجهة مباشرة. فإذا كان الطفل على سبيل المثال يخاف من شيء معيّن فالطريقة الصحيحة هي أن يزود بمزيد من المعلومات عن ذلك الشيء.

والخطورة في الأمر هي أن يسرف الوالد أو الوالدة في التجاوب مع خوف الطفل، وقد يكون هذا الإسراف ناشئاً عن ظن منهما بأنّ الخوف يدل على اضطرابات أعمق في نفس الطفل. فإذا ظهر الخوف على الطفل فإن ثقة الوالدين قد تصاب بالاهتزاز في وقت يكون الطفل فيه في أمس الحاجة إلى ثقة والديه فيه. فالوالدان والحالة هذه إذا حملا مخاوف الطفل بجدية زائدة عن الحد، فإنّهما قد يساعدان على تقوية الشعور بالخوف. أما إذا استطاعا أن يواجها مخاوف الطفل مواجهة الفاهم العطوف بطريقة معقولة فإن ذلك يشعر الطفل بمزيد من الطمأنينة.

أما إذا استمع الطفل إلى شرح والديه وظل مع ذلك محتفظاً بمخاوفه فإن فشل الوالدين قد يزيد من المخاوف. ومن المهم أن يدرك الوالدان في مثل هذه الحالة أن مسؤوليتهما ليست تجريد الطفل من مخاوفه بقدر ما تكون جعلهما نفسهما مرفأ الأمان الذي يرسو عنده الطفل.

وبالنظر إلى أنّ الوالدين يشعران بأن خوف طفلهما قد يكون عائداً إلى صراعات داخلية أو ضغوط يعاني منها الطفل، فإنّهما قد يتخليان عن مبدأ الانضباط وينصرفان بدلاً من ذلك إلى إرضاء الطفل والتسرية عنه. ومثل هذا التصرف يزيد الأمور سوءاً. وما لم يمضيا في تقديم الأمان وفق الحدود المألوفة، فإنّه قد يشعر بمزيد من الخوف من نفسه. فالحدود – حتى لو لم تكن محببة إليه في تلك الحالة – هي التي يمكن أن تساعده على حل القضايا الكامنة وراء مخاوفه. ولابدّ أن يكون حل المشكلة من اختصاص الطفل الذي ينبغي أن يسعى هو لحل مشكلته بدعم وتشجيع من والديه.

إنّ أوّل نوع من مخاوف الطفل قد يكون تحسساً زائداً ضد الغرباء. وهذا الخوف قد يتجلى في أوقات عدة خلال السنة الأولى من العمر. وإن حالات الخوف من الغرباء هي الأدلة الأولى على تزايد قدرة الطفل على التمييز بين الأشخاص الهامين في حياته. فالقدرة على التمييز بين الأب والأُم من "الآخرين" هي من المهام الكبرى عند الرضع، وهي قدرة تظهر في سن مبكرة. وهذا التمييز يحدث منذ الأسبوع الرابع أو السادس، فلا يبلغ الطفل الشهر الرابع حتى يزداد إدراكاً لوجود أُمّه أو أبيه وقد ينصرف عن سواهما.

وبعد فترة طويلة من الدراسة والتقويم فإنّ الطفل قد يشرع في الانخراط ببكاء عنيف إذا حمله ذلك الشخص القريب "المألوف". وهذا الخوف يمثل بدء الوعي بوجود الفروق الهامة ولو أنها فروق ضئيلة جدّاً.

هذه الدلائل الأولى للإدراك في حياة الطفل عند بلوغه الأربعة أو الستة أسابيع والأشهر الأربعة إلى الخمسة من حياته تعقبها مرحلة أعنف من حياة القلق إزاء الأغراب هي مرحلة الأشهر الثمانية من حياته. في هذه السن يمكن للإنسان أن يتوقع إدراك الطفل للأماكن الغريبة وللأغراب من الناس.

فالطفل ما دام قادراً على التشبث بأحضان أمّه وإخفاء وجهه بين طيات ثيابها عند الحاجة فإنّه يكون قادراً على مواجهة المواقف الجديدة. غير أن انتزاعه من بين ذراعي أمه، أو الدنو منه بصورة مفاجئة سريعة يفقدانه الطمأنينة والثقة، وحتى الضجيج العالي أو الضحكات المجلجة المفاجئة أو المواجهة القريبة وجهاً لوجه تشكل وضعاً غريباً يمكن أن يؤدي إلى انخراط الطفل في العويل.

إنّ خوفاً كهذا يرافق إدراكاً متنامياً لدى الطفل للبيئات العادية والمألوفة وكذلك قدرته على استكشافها عملياً. وفي هذه السن يتعلم الطفل كيف يحبو وينتقل من مكان إلى آخر. ولكنه مع ذلك يريد أن تظل البيئة التي يعرفها ملازمة له لأنّ التغييرات تكون من الأمور المعقدة التي لا يستطيع استيعابها بعد. وإذا  كان بوسع الطفل أن يتبع أمه إلى الزاوية التي توارت فيها فإنّه يظل قادراً على مشاهدتها. وإذا استطاع أن يصل إلى أسفل الأريكة فإنّه يستطيع استخراج دميته المخبأة تحتها. أي أنّ الأهداف المتحركة وغير المتحركة تصبح في متناول يده لو أنّه قام بالحركة الصحيحة. ولكنه في السن التي نتحدث عنها لا يكون قد اكتسب الخبرة المطلوبة للتنقل.

إنّ هذا التوسع في الملكات وفي قدرة الطفل على الفهم، ورغبته في أن يبقي كلّ شيء تحت سيطرته، كلّ ذلك يخلق اختلالاً في التوازن عند الطفل، ويزيد من حدة انكشافه للمواقف الجديدة ويضاعف مخاوفه من الأغراب.

وعندما يبلغ الطفل عاماً واحداً من عمره فإنّ الآلية الجديدة في جسمه تخلق نوعاً جديداً من الاضطراب. فالطفل قبل ذلك يظل عدة أشهر قادراً على الاحتفاظ بنوع من الهدوء إزاء الأوضاع الغريبة. ولكن عندما يصبح قادراً على الانتصاب وعلى التهيؤ للمشي والانتقال تلقائياً وبسهولة نسبية من مكان إلى آخر يعود إلى التحسس القوي بالمواقف الجديدة. فهو يكره أن يحمل إلى منزل جديد حيث يأخذ في التنقل بين اثاث لم يعتد عليه. ويكره أن يساعد أحد من الكبار على المشي سوى والديه، ولا يسمح بأن يغيب أبوه أو أمّه عن ناظريه. لذلك فإنّهما إذا خرجا من الغرفة أو أدارا ظهريهما إليه ينخرط في البكاء. في هذه السن يكون خوف الطفل ناشئاً عن صراع على "التحكم". فهو يريد أن يكون هو الشخص الذي يبقى أو يذهب وأن يكون هو الشخص الذي يغادر الغرفة أو يدير ظهره للناس.

هذا الصراع النفسي أثناء النهار قد يؤدي إلى تضخيم الاضطراب ليلاً. فهو قد يستيقظ جزعاً مرتين أو ثلاثاً أثناء الليل، وقد يقف في مهده نصف مستيقظ ويطلق العنان للبكاء والصراخ.

الدلالة الثانية قد تحدث في العام الثاني أو في منتصف العام الثالث من العمر. في هذه السن قد يصبح الطفل بغتة أكثر إدراكاً للضجيج العالي ويخاف من الأصوات المرتفعة، كأصوات زمامير السيارات أو صوت الغسالة أو الضحكات المجلجلة. فهذه الأصوات قد تلقي به بغتة إلى وضع جديد، ومثل هذا الشيء قد يسبب خوفاً لدى الطفل.

يبلغ الاضطراب ذروته عندما يبلغ الطفل الثانية أو الثانية والنصف من العمر. ففي هذه السن يجد الطفل نفسه حائراً بين أمرين متناقضين على مستويات عدة: نعم أم لا؟ هل أدخل أم أخرج؟ هل أفعل كذا أم لا أفعله؟ ويحار الطفل بين هذه الخيارات التي تستحوذ على قدر كبير من اهتمامه.

عندما تبدأ المخاوف في الظهور يكون لزاماً على الوالدين أن يقوما الأوضاع وأن يتجاوبا معها التجاوب الصحيح. فالطفل قد يكون ذا مزاج يتصف بالقوة والانطلاق وعندها يكون قادراً على مواجهة مشاكله بنفسه. أما إذا كان الطفل من النوع الهادئ، فإن تلك المخاوف تتطلب من الوالدين اهتماماً  كبيراً  كالإكثار من مرافقته إلى خارج المنزل ومساعدته على زيادة قدرته على التعبير عن نفسه.

وعندما يبلغ الطفل الثالثة والنصف أو الرابعة من عمره، فإنّ الخوف قد يصبح ملازماً لبدايات الميول العدائية الطبيعية. إن معظم الأطفال يقتبسون هذه الميول في هذه السن كجزء من عملية النمو وتجربة الذات.

فالمخاوف في هذه السن قد تكون تعبيراً عن روادع تحد من مقدرة الطفل لسبب ما على التعبير عن الروح العدائية.

لذلك فإن بث الطمأنينة في نفس الطفل إزاء المخاوف التي يشعر بها، إنما يؤدي إلى تقوية شعور الطفل بأهمية ذاته. فإذا أظهر الوالدان أنهما يباليان فعلاً بمخاوف طفلهما وساعداه على فهمها وتخطيها، فإنّهما إنما يساعدانه على تجاوز تلك المخاوف والتحكم فيها.

 

المصدر: كتاب المشاكل النفسية للكاتبة سوسن حسين

ارسال التعليق

Top